تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 181 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 181

181 : تفسير الصفحة رقم 181 من القرآن الكريم

** وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوَاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم, ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم, ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر, فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد. وقال قتادة والسدي وغيرهما: لم يكن القوم يستغفرون, ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا. واختاره ابن جرير, فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد, ولكن دفع عنهم بسبب أولئك, كما قال تعالى في يوم الحديبية {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله, ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم, فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء, لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليم}. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}, قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} , قال: وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين, يعني بمكة {يستغفرون} فلما خرجوا أنزل الله {وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه}, قال: فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. وروي عن ابن عباس وأبي مالك والضحاك وغير واحد نحو هذا, وقد قيل: إن هذه الاَية ناسخة لقوله تعالى: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}, على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم, قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا: قال في الأنفال {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}, فنسختها الاَية التي تليها {وما لهم ألا يعذبهم الله ـ إلى قوله ـ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}, فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر, وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نميلة يحيى بن واضح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ثم استثنى أهل الشرك فقال {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} ـ وقوله ـ {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به, ولهذا قال: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}, وقال تعالى: {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله}, الاَية. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية: حدثنا سليمان بن أحمد هو الطبراني, حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا نوح بن أبي مريم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياؤك ؟ قال: «كل تقي» وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن أولياؤه إلا المتقون}. وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو بكر الشافعي, حدثنا إسحاق بن الحسن, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا سفيان عن عبد الله بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فقال: «هل فيكم من غيركم ؟» فقالوا فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال: «حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا إن أوليائي منكم المتقون» ثم قال هذا صحيح ولم يخرجاه, وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون} قال هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقال مجاهد: هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا, ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام, وما كانوا يعاملونه به, فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}, قال عبد الله بن عمرو وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الصفير, وزاد مجاهد وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم, وقال السدي: المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز {وتصدية}, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد, حدثنا يونس بن محمد المؤدب, حدثنا يعقوب يعني ابن عبد الله الأشعري, حدثنا جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}, قال المكاء الصفير والتصدية التصفيق, قال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه, وعن ابن عمر أيضاً أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه. وقال عكرمة: كانوا يطوفون بالبيت على الشمال, قال مجاهد: وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته, وقال الزهري يستهزئون بالمؤمنين, وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد {وتصدية} قال صدهم الناس عن سبيل الله عز وجل. قوله {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}, قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق: هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي, واختاره ابن جرير ولم يحك غيره, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال عذاب أهل الإقرار بالسيف وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.

** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
قال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة, فقالوا يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم, فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا ففعلوا, قال ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله عز وجل {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ـ إلى قوله ـ هم الخاسرون}, وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وقتادة والسدي وابن أبزى أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال الضحاك: نزلت في أهل بدر وعلى كل تقدير فهي عامة, وإن كان سبب نزولها خاصاً فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم تكون عليهم حسرة أي ندامة حيث لم تجد شيئاً لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الاَخرة عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه, ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي, ولهذا قال: {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون, والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} وقوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ليميز الله الخبيث من الطيب} فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء, وقال السدي: يميز المؤمن من الكافر, وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الاَخرة كقوله: {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم} الاَية, وقوله: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون}, وقال في الاَية الأخرى: {يومئذ يصدعون} وقال تعالى: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين, وتكون الللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه في الصد عن سبيل الله أي إنما أقدرناهم على ذلك {ليميز الله الخبيث من الطيب} أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين, أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا, قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم} الاَية وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} الاَية, وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ونظيرها في براءة أيضاً فمعنى الاَية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه} أي يجمعه كله وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب {ثم يجعله ركام} أي متراكماً متراكباً {فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والاَخرة.

** قُل لِلّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِينِ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل للذين كفروا إن ينتهو} أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف أي من كفرهم, وذنوبهم وخطاياهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية, ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والاَخر» وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها» وقوله {وإن يعودو} أي يستمروا على ما هم فيه {فقد مضت سنة الأولين} أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله {فقد مضت سنة الأولين} أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم, وقال السدي ومحمد بن إسحاق أي يوم بدر. وقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} قال البخاري حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن يحيى حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمرعن بكير عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً جاء فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلو} الاَية فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال: يا ابن أخي أعير بهذه الاَية, ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بالاَية التي يقول الله عز وجل {ومن يقتل مؤمناً متعمد} إلى آخر الاَية قال: فإن الله تعالى يقول {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة, فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال فما قولكم في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان, أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه, وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون, وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة, وليس بقتالكم على الملك. هذا كله سياق البخاري رحمه الله تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالوا أو لم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ؟ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله, وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي, قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, فأتاه رجل فقال: إن الله يقول {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}, قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة, وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا رواه حماد بن سلمة, فقال ابن عمر: قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله, وذهب الشرك ولم تكن فتنة, ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله, رواهما ابن مردويه. وقال أبو عوانة: عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه, قال: قال ذو البطين, يعني أسامة بن زيد: لا أقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً. فقال سعد بن مالك: وأنا والله لا أقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً, فقال رجل ألم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ؟ فقالا: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه, وقال الضحاك عن ابن عباس {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}, يعني لا يكون شرك, وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم, وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير, وغيره من علمائنا, حتى لا تكون فتنة, حتى لا يفتن مسلم عن دينه, وقوله {ويكون الدين كله لله} قال الضحاك: عن ابن عباس في هذه الاَية, قال يخلص التوحيد لله, وقال الحسن وقتادة وابن جريج {ويكون الدين كله لله} أن يقال لا إله إلا الله, وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصاً لله, ليس فيه شرك, ويخلع ما دونه من الأنداد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {ويكون الدين كله لله}, لا يكون مع دينكم كفر, ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «أمرت أن أقاتل الناس, حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم, إلا بحقها, وحسابهم على الله عز وجل» وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية, ويقاتل رياء, أي ذلك في سبيل الله عز وجل ؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل».
وقوله {فإن انتهو} أي بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه, وإن لم تعلموا بواطنهم {فإن الله بما يعملون بصير}, كقوله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}, الاَية, وفي الاَية الأخرى {فإخوانكم في الدين}, وقال {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة, لما علا ذلك الرجل بالسيف, فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ فقال يا رسول الله, إنما قالها تعوذاً, قال «هلا شققت عن قلبه ؟» وجعل يقول ويكرر عليه, «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟» قال أسامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ, وقوله {وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير}, أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم فاعلموا أن الله مولاكم, وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير. وقال محمد بن جرير حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أبان العطار حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء فكتب إليه عروة: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني, عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وسأخبرك به, ولا حول ولا قوة إلا بالله, كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, أن الله أعطاه النبوة, فنعم النبي ونعم السيد ونعم العشيرة, فجزاه الله خيراً, وعرفنا وجهه في الجنة, وأحياناً على ملته وأماتنا وبعثنا عليها, وأنه لما دعا قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه, وكانوا يسمعون له, حتى إذا ذكر طواغيتهم, وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال, أنكر ذلك عليه ناس واشتدوا عليه, وكرهوا ما قال وأغروا به من أطاعهم, فانعطف عنه عامة الناس, فتركوه إلا من حفظه الله منهم, وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث, ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم, فكانت فتنة شديدة الزلزال, فافتتن من افتتن وعصم الله ما شاء منهم, فلما فعل ذلك بالمسلمين, أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة, وكان بالحبشة ملك صالح, يقال له النجاشي, لا يظلم أحد بأرضه, وكان يثنى عليه مع ذلك, وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها, وكانت مساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغاً من الرزق, وأمناً ومتجراً حسناً, فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم, فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة, وخافوا عليهم الفتن, ومكث هو فلم يبرح, فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم, ثم إنه فشا الإسلام فيها, ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم, فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه, وكانت الفتنة الأولى: هي التي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض الحبشة مخافتها, وفراراً مما كانوا فيه من الفتن والزلزال فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم تحدث باسترخائهم عنهم, فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد استرخى عمن كان منهم بمكة, وأنهم لا يفتنون, فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها, وجعلوا يزدادون ويكثرون, وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير, وفشا الإسلام بالمدينة وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, فلما رأت قريش ذلك, توامروا على أن يفتنوهم ويشتدوا, فأخذوهم فحرصوا على أن يفتنوهم, فأصابهم جهد شديد, فكانت الفتنة الاَخرة, فكانت فتنتان: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها, وأذن لهم في الخروج إليها, وفتنة: لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة, ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيباً, رؤوس الذين أسلموا, فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة, وأعطوه عهودهم ومواثيقهم, على أنا منك وأنت منا, وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا, فاشتدت عليهم قريش, عند ذلك, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه, أن يخرجوا إلى المدينة, وهي الفتنة الاَخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه, وخرج هو, وهي التي أنزل الله عز وجل فيها {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}, ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب, عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عروة بن الزبير, أنه كتب إلى الوليد يعني ابن عبد الملك بن مروان بهذا, فذكر مثله, وهذا صحيح إلى عروة رحمه الله.